اعتاد الناس إذا مات ميت أن يجتمعوا عند بيت المتوفى خارج المنزل ، وينصبون الخيام وتوضع المصابيح الكهربائية ، ويستقبلون الوفود ، ويصطف أهل المتوفى ، ويمر الذين يريدون تعزيتهم عليهم واحداً بعد الآخر ، ويضع كل منهم يده في يد الآخر قائلاً له " عظَّم الله أجرك " وبعد الجلوس يمرون عليهم بالقهوة والدخان والتمر ، ويستمر هذا الحال ثلاثة أيام ، وفي اليوم الثالث يقوم أهل المتوفى بصنع الطعام للحاضرين ، ويدعون الناس إليه ، فما حكم هذا الفعل ؟
إذا تعارضت العادة مع الشرع ، فعلى المسلم أن يقدم الشرع على العادة ، ولا يلتفت إلى ما اعتاده الناس مما يخالف شرع الله ،والحق أحق أن يتبع ، وإليكم فتاوى العلماء في ذلك :
فتوى الإمام أبو بكر الطرطوشي – رحمه الله – الحوادث والبدع ص . 170-171
قال علماؤنا المالكيون : " التصدي للعزاء بدعة ومكروه ، فأما إن قعد في بيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء ، فلا بأس به فإنه لما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم – نعي جعفر – جلس في المسجد محزونا وعزَّاه الناس " متفق عليه .
قال مالك : " ولا بأس أن يبعث إلى أهل الميت طعام ، وسواء فيه القريب والبعيد ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر قال : اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فإنه جاءهم ما يشغلهم عنه " رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح .
وهذا الطعام مستحب عند معظم العلماء ، لأن ذلك من البر والتقرب للأهل والجيران ، فكان مستحبا ، فأما إذا أصلح أهل الميت طعاماً ودعوا الناس إليه ، فلم يُنقل فيه من القدماء شيء وعندي أنه بدعة مكروه ، وقال أبو النصر الصباغ : لم يُنقل فيه شيء وهو بدعة غير مستحب " .
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 9/137-138 . "
التعزية مشروعة ، وفيها تعاون على الصبر والمصيبة ، ولكن الجلوس للتعزية على الصفة المذكورة ، واتخاذ ذلك عادة لم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن من عمل أصحابه ، فما اعتاده الناس من الجلوس للتعزية حتى ظنوه دينا ، وانفقوا فيه الأموال الطائلة ، وقد تكون التركة ليتامى ، وعطلوا فيه مصالحهم ، ولاموا من لم يشاركهم ويفد إليهم ، كمن ترك شعيرة إسلامية ، هذا من البدع المحدثة ، التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم قوله : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه
وفي الحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "
رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح
فأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، فهم لم يكونوا يفعلون ذلك ، وحذَّر من الإبتداع والإحداث في الدين ، وبين أنه ضلال ، فعلى المسلمين أن يتعاونوا على إنكار هذه العادات السيئة والقضاء عليها إتباعاً للسنة ، وحفظ الأموال والأوقات ، وبعداً من مثار الأحزان ، وعن التباهي بكثرة الذبائح ، ووفود المعزين ، وطول الجلسات ، وليسعهم ما وسع الصحابة والسلف الصالح من تعزية أهل الميت ، وتسليتهم والصدقة عنه والدعاء له بالمغفرة والرحمة .
فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله –
فتاوى علماء البلد الحرام ص . 763- ، فتاوى نور على الدرب -/369 " هذا العمل ليس مطابقاً للسنة ، ولا نعلم لها أصل في الشرع المطهر ، وإنما السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة ، ولا اجتماع معين كهذا الاجتماع ، وإنما يشرع لكل مسلم أن يعزي أخاه بعد خروج الروح في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة ، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها ، وإذا قابله شرع له مصافحته ، والدعاء له بالدعاء المناسب مثل " عظَّم الله أجرك ، وأحسن عزاءك ، وجبر مصيبتك " وإذا كان الميت مسلما دعا له بالمغفرة والرحمة وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضا ، ويعزي الرجل المرأة ، والمرأة الرجل ، لكن دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرما له … وفَّق الله المسلمين جميعاً للفقه في الدين والثبات عليه إنه خير مسؤول " .
أما إذا كان أهل الميت يصنعون الطعام ويجتمع عليه الناس فإن هذا لا يصلح بل هو من البدع ، ومن المآثم المنكرة قال جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه – كنا نعد الإجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام بعد الدفن من النياحة " أخرجه أحمد وهو صحيح .
فأخبر جرير أنهم كانوا يعدون اجتماع الناس لأهل الميت ، وصنعة الطعام من أهل الميت للناس ، كانوا يعدون هذا من النياحة ، يعني - يعده الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم ، فدل ذلك على أن أهل الميت لا يصنعون طعاماً للناس ولا يجمعونهم ، ولكن يستحب لجيرانهم وأقاربهم أن يبعثوا لهم طعاماً لكونهم مشغولين بالمصيبة " .
فتوى المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله –
أحكام الجنائز ص. 162-168.
وتشرع تعزية أهل الميت ، ويعزيهم بما يظن أنه يسليهم ويكف من حزنهم ويحملهم على الرضا والصبر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إن كان يعلمه ويستحضره وإلا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع.
ولا تحد التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها ، وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما :
أ - الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد .
ب - اتخاذ أهل الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء .
وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : ( صحيح ) ( كنا نعد ( وفي رواية : نرى ) الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة ) . وإنما السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاما يشبعهم لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم ) والحديث حسن .
قال الإمام الشافعي في ( الأم ) ( 1/247 ) : ( وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاما يشبعهم فإن ذلك سنة وذكر كريم وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا ) .
فتوى العلاَّمة محمد صالح العثيمين – رحمه الله –
فتاوى التعزية ص . 46
" أصل الجلوس للتعزية خلاف السنة ، ولم يكن معروفاً في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن يجتمع أهل الميت ليتلقوا العزاء من الناس، بل كانوا يعدون صنعة الطعام في بيت أهل الميت، والاجتماع على ذلك من النياحة، والنياحة من كبائر الذنوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة وقال: «النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب»، أخرجه أبو داود والحديث صحيح نعوذ بالله، فلهذا نحن ننصح إخواننا المسلمين عن فعل هذه التجمعات التي ليست خيراً لهم بل هي شر لهم.
فتوى العلاَمة صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله –
المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان 1/196-197 . " التعزية عند الوفاة مشروعة ، لأنها من باب المواساة ، وفيها دعاء للميت ، وذلك بأن يقول المعزي لمن أُصيب بوفاة قريب : " أحسن الله عزاءك ، وجبر مصيبتك ، وغفر لميتك " . ولا ينبغي أن يكون هناك مبالغات في العزاء من نصب الخيام ، والاجتماع الكبير والتوسع في صنعة الطعام والولائم ، قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : ( كنا نعد ( وفي رواية : نرى ) الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة ) .
وإنما السنة أن يصنع الطعام من أحد أقارب المصابين أو جيرانهم ، يقدم إليهم بقدر حاجتهم من باب المواساة لهم لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم ) .
ثم لا ينبغي الجلوس للعزاء في مكان مخصص والإعلان عن ذلك ، وإنما يعزى المصاب إذا التقى به في أي مكان ويكون في الوقت القريب من حصول الوفاة والله أعلم .
فتوى الشيخ علي محفوظ – رحمه الله –
الإبداع في مضار الإبتداع ص228 .
وأما اجتماع الرجال في المآتم لداعية الحزن على الميت فمعلوم أيضاً ما سيلزمه هذا الإجماع عادة من النفقات الطائلة لغرض المباهاة والرياء بإعداد محل الاجتماع وإحضار البسط والكراسي المذهبة ونحوها ولا شك في حرمة ذلك لما فيه من إضاعة المال لغير غرض صحيح ولا يفيد الميت شيئاً ويعود بالخسارة على أهله هذا إذا لم يكن في الورثة قاصر ، فما بالك إذا كان يقع فيهم قاصر وقد يتكلفون ذلك بالقرض بطريقة الربا ، نعوذ بالله من سخطه ، وإن ما يقع بعد الدفن من عمل المآتم ليلة أو ثلاثة مثلاً لا نزاع في أنه بدعة ، ولم يثبت عن الشارع ولا عن السلف أنهم جلسوا بقصد أن تذهب الناس لتعزيتهم ، وكانت سنته – صلى الله عليه وسلم – أن يدفن الرجل من أصحابه وينصرف كل إلى مصالحه . هذه كانت سنته ، وهذه كانت طريقته والله تعالى يقول :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }
(الأحزاب:21)
فلنتأس به فيما ترك كما نتأسى به فيما فعل والجمهور على كراهة ذلك لأنه يجدد الحزن ويكلف المعزي – قال الإمام الأوزاعي : الحق أن الجلوس للتعزية على الوجه المتعارف في زماننا مكروه أو حرام .
أخي المسلم : هذه هي فتاوى أهل العلم ، فما عليك إلا الإتباع وإياك والابتداع ، وكل الخير في اتباع من سلف ، وكل الشر في ابتداع من خلف.